خارطة المرحلة القادمة: النصف الثاني من العام 2022 مصيري بامتياز
أما وقد انتهت الانتخابات النيابية ( في الظاهر ) على خير وجب استنباط واستنتاج عدد من الملاحظات الأساسية تشكّل ما يشبه خارطة الطريق السياسية للمرحلة المقبلة وعلى أقل تقدير لغاية نهاية العام 2022 الحافل بالتطورات والأحداث.
لقد شكّل فوز قوى المجتمع المدني أو "التغييريين" مفاجأة فاقت كل توقّعات المنجمّين وقد تمكنوا من أن يحصدوا قرابة 245000 صوتاً تفضيلياً على مساحة الوطن واللافت فيها أنها أصواتاً مختلطة طائفياً ومناطقياً ما تعطي للمرة الأولى في تاريخ لبنان كتلةً وازنة متنوّعة تشبه لبنان الجديد ، لبنان الذي عبّر عنه معظم من شارك في انتفاضة 17 تشرين 2019. أضف إلى هذا مشهد تاريخي تمثّل بإقتراع المغتربين بهذا الحجم وهذا الإقبال في ظاهرة لا شكّ ستكبر لأن حجم الخارجين أكبر بكثير من العائدين إلى حضن الوطن ولهؤلاء نقمة كبيرة (عقابية) على من كان السبب في هجرتهم وإيصال لبنان إلى حاله.
للمرّة الأولى أصبح للشارع الذي لا لون له ولا هوّية طائفية من يمثلّه في البرلمان اللبناني وهذا بحدّ ذاته تغيير إيجابي في المشهد اللبناني يعوّل عليه ويجب حمايته من التضعضع والدخول في متاهات السياسة الطائفية اللبنانية التقليدية.
المشهد الثاني واللافت هو سقوط من اعتقدوا أن وصولهم إلى النيابة هو "تحصيل حاصل" ولم يقرأوا التغييرات جيداً فهم لم يتمكنوا من حصد الحاصل الذي يخوّلهم الفوز وهؤلاء تمثلوا بوجوه لطالما اعتبرها البعض من الثوابت السياسية الحليفة للخط "السوري" او الممانع. خسارة هؤلاء أتت لصالح التغييريين في عدد من الدوائر وخارج نطاق سيطرة الثنائي الذي لم يفاجأ سوى بخرقٍ صغير الحجم كبير الدلالات للمرحلة المقبلة.
المشهد الثالث تمثّل بتفتّت الشارع المسيحي وانقسامه (مناصفةً) بين أخوة الأمس، كما تمثّل بظاهرة العدّ والعدّ المقابل على من ينتزع دفّة القيادة لسفينة الشارع المسيحي (سواء ذهاباً أو إياباً من جهنّم)، غير أن احتساب الأصوات "التفضيلية" يشير إلى تفوّق القوات اللبنانية (173000) على التيار الوطني الحر (121000) للحزب الذي سعى إلى إعادة فرض مكانة زعيمه مرشحاَ رئاسياً من خلال إحتفال ضخم لإظهار الحجم والقوّة في زمن لم يعد للمواطن فيه أيّ قوّة أو "حَيل".
المشهد الرابع يتمثل بضرورة إعادة النظر بقانون النسبية المركّب والهجين الذي قيل فيه أنه سيحسّن التمثيل "الطائفي" غير أنه استولد مقاعد بأقل من 1000 صوت (كمثل الماروني في جزين الفائز بالحاصل بأصوت سنّة صيدا) على حساب ماروني آخر نال أكثر من 5000 صوت تفضيلي ولم تحصد لائحته الحاصل في جزين. طبعاً هذه المعادلة تكرّرت في مناطق أخرى من لبنان وأنتجت نواباً بـ 17000 صوت تفضيلي مقابل نواب بـ 400 صوت تفضيلي ... فأيهما شرعي وأيّهما نائب "صدفة" أو حسابات وحواصل وكسور؟
المشهد الخامس تمثّل في إعادة تثبيت القوى السياسية التقليدية لمواقعها ما يشكّل أيضاً رسالة إلى الجميع بأن هناك من لا يزال يؤمن بالأحزاب "التقليدية" ويجدد لها المبايعة ما يجعل من البرلمان مفروزاً بشكل كبير فلا الأكثرية الموصوفة (الثلثين) ملكاً لفريق، ولا حتى الأكثرية العادية (نصف عدد المجلس) بيد فريق. من دون أن ننسى الغائب الأكبر "تيار المستقبل" الذي توزّعت أصوات مناصريه هنا واندثرت تارةً لصالح الأحزاب وطوراً لمصلحة التغييريين.
الأكيد أن الساحة البرلمانية سوف تشهد في الأيام المقبلة محاولة استقطاب للتغييرين والمستقلّين من قبل التكتلات التقليدية "الحزبية" من أجل استمالة هؤلاء لصالحهم في قضايا أساسية هي :
أولاً: انتخابات رئاسة المجلس النيابي
بات من المحسوم عودة الرئيس بري الى رئاسة مجلس النواب لسببين: الأول هو غياب البديل "الشيعي" القادر على لعب دور "بيضة القبان" الوازنة والخبرة اللازمة لإدارة التوازنات، والسبب الثاني هو عدم خسارة الكتلة الشيعية لمقاعدها التمثيلية في مناطقها حيث تتمتع بقوة شعبية هائلة لم تتراجع بالشكل الذي يمكنّها التخلّي عن مقعد رئاسة المجلس.
غير أنه من المؤكد أن حجم الأصوات لن يكون كما كان عليه في السابق (بحدود المئة صوت ) بل سنشهد تحالفات ظرفية تؤمّن وصول الرئيس بري مع إمكانية إعطاء موقع "نائب المجلس" الأرثوذكسي للكتلة التي تتفق مع الأخير. ( وهنا يبرز اسم 3 مرشحين من 3 تكتلات وهم : ملحم خلف ( عن المجتمع المدني والتغييريين والمستقلين) ، الياس بوصعب ( عن التيار الوطني الحر ) وغسان حاصباني ( عن القوات اللبنانية ).
ثانياً: الحكومة وشكلها
من علامات الشرخ الكبيرة، التي ستظهر قريباً والتي قد تبقي الرئيس ميقاتي مصرفاً للأعمال لفترة ليست بقصيرة، هي مسألة الإتفاق على تسمية رئيس حكومة جديد. وما إذا كانت هذه الحكومة سياسية أو تكنوقراطية وما إذا كان المجتمع المدني سيقبل بأن يجمع بين النيابة والوزارة أو سيسمّي وزراء من خارج التكتل التغييري لتوسيع مروحة التمثيل ... وما هي الأحجام التي سيطالب بها كل من الأحزاب والمستقلين والتغييريين ؟ وهل سينجحوا في خلق تكتل كبير لمواجهة فريق "السلطة" وبالتالي تحسين فرص التفاوض والشروط التفاوضية ؟
والسؤال الأبرز : من يمثّل الطائفة السنيّة في ظل غياب أكثرية سنيّة وازنة ؟ وهل يعود اسم سعد الحريري الذي استقال استجابة لمطلب ثورة 17 تشرين ودفع ضريبة استقالته بعدم تسميته مجدداً من قبل فريق "الصفقة الرئاسية" ؟ أو ستعود أسهم السفير نواف سلام ومصطفى أديب للتداول في بورصة الأسماء الحكومية ؟ أم أن المجتمع المدني سيسمّي مرشحاً من صفوفه ؟ وهل يقبل الأخير بمعادلة السلاح ؟ والتحاور مع السلطة وجهاً لوجه بعد أو واجهها في الشارع ؟
أسئلة عديدة وطويلة تطرح ، ولكن الأكيد أن ضغط الشارع وانهيار الليرة وتفاقم الأزمات الإجتماعية والصحية سوف يجعل الجميع في عجلة من أمرهم للإسراع في التشكيل والتأليف "بمن أو بما حضر".
ثالثاً : الإنتخابات الرئاسية
الاستحقاق الثالث الكبير هو الانتخابات الرئاسية !
هل يؤمّن النصاب لانتخاب الرئيس ؟ وهل نذهب إلى الجلسة من دون معرفة مسبقة للإسم الرئاسي؟
هل ترشحّ القوى الثورية اسماً من صفوفها ؟ أو تتفق مع السلطة على اسم قد يشكّل مرجعية وسطية قادرة على انقاذ ما تبقى من الهيكل المتداعي على رؤوس الجميع؟
ولا مجال للدخول كثيراً في لعبة التسميات لكن من الأكيد واللافت أن الثورة التي هتفت ضد "جبران باسيل" لن ترضى بطرح اسمه أو سليمان فرنجيه (الموعود من الحليف برئاسة حُرم منها بسبب إعطاء فرصة لعون لم يحسن الأخير استخدامها) وسنكون أمام مشهد انقسامي كبير ولعلّ تأمين النصاب هو العنوان الأبرز. فجلسة الإنتخاب الرئاسية تحتاج لغالبية الثلثين لا يمكن لفريق واحد تأمينها... وهنا ستبرز الحاجة إلى شخصية توافقية قد تكون من نصيب 3 اسماء : ميشال معوض (المرضي عنه أميركياً)، العماد جوزيف عون (المرضي عنه فرنسياً وأميركياً ومحلياً ) ونعمة افرام (الساعي لبناء وطن الإنسان ولتكوين شخصية مقربّة سياسياً من الجميع مع سياسة مد الجسور). ( وللحديث تتمة)
في الختام ، يبقى أن نشير إلى قضايا عالقة أخرى ننتظر أن نسمع رأي البرلمان الجديد حولها وابرزها : مسألة الاستراتيجية الدفاعية وسلاح حزب الله والتحقيق في مرفأ بيروت واستكماله مع أو من دون المحقق العدلي الحالي، والحلّ المالي والإصلاحات والمفاوضات مع صندوق النقد الدولي لمحاولة إنقاذ لبنان من الهلاك المحتّم من دون نسيان الملف القضائي والتحقيقات الجنائية الساعية إلى الإقتصاص من المسؤول عن كل المرحلة السابقة أو على الأقل من التسعين إلى اليوم.
ومن الواهم لأحد طرح فكرة لبنان جديد أو مؤتمر تأسيسي وسط كل هذا الغليان .... ونخشى ما نخشاه أن يكون الخطر المعيشي الداهم الأكبر لجميع القوى السياسية، سواء التغييريين أو التقليديين أو الوارثين أو المستجدين أو الطالعين والنازلين من وإلى جهنّم الحياة السياسية في لبنان.
فما الحل؟
فيليب أبو زيد
22 أيار 2022