المعجزة اللبنانية لم تعد
متاحة... فهل ينفع الأمل ؟
من حسنات الكتابة هي أنها تخلّد فكرة في لحظة
تاريخية معيّنة وفي زمنٍ معيّن. بدأت الكتابة عام 1998 وكنت على مقاعد الدراسة.
أوّل مقال لي نشر لي في "جريدة النهار" كان عام 2000 وحمل عنوان "
لبنان لنا " أكتب فيه عن طموحات شابٍ بلغ سن الرشّد بوطن حرّ سيّد ومستقلّ في
زمن عرف بزمن الوصاية والهيمنة والاحتلال. كانت أحلامنا كبيرة تفجرّت في العام
2005 مع "ثورة الاستقلال الثاني" وانتهت مفاعيلها بالنسبة لي مع اغتيال
جبران تويني الذي طوى اغتياله تلك المرحلة وهذا الحلم "الصبياني"
بالثورة والاستقلال والتحرّر والحريّة.
تفتّحت عيناي على العمل السياسي (غير الحزبي)
في الجامعة اليسوعية من باب الإنخراط في العمل الطلاّبي ودراسة العلوم السياسية -بعيداً
عن السياسيين- لأنني لم أؤمن يوماً بأن الأحزاب تغلّب المصلحة العامّة فوق المصلحة
الشخصية ولأنّي ورثت هذا التفكير من والدي (وهو أجمل إرث) الذي ذاق لوعة الحروب
تباعاً. منذ الدراسة الى بداية حياته المهنية فكانت ضربتين كبيرتين طبعتا مسيرته.
الأولى في الـ 1975 يوم اندلعت حرب السنتين واضطّر الى انهاء الدراسة على عجل
والثانية في آخر الثمانينات 1989 يوم كان يؤسّس لمشتلٍ كبير لسوء حظّه وقع في
منطقة "تماس" فسوّته الدبابات بالأرض... ما أبشع حروب الموارنة العبثية التي
دفعتنا الى الخارج و"اتفاق الطائف" وحلم إعادة النهوض من جديد. بدأت بعدها
مرحلة "الشرعي والمؤقت" وتوالت الخروقات الدستورية والخزعبلات في الحكم
فعدّل الدستور أكثر من مرّة "لمرّة واحدة وبصورة استثنائية فقط"...
تدجنّت فكرة الاستثناء بدل القاعدة في ذهني
في هذا الوطن. وعلى الرغم من كل ذلك حاولت من خلال الكتابة أن أتناول تلك اللحظات
من منظار شاب يكبر ويتعلّم ويتحدّى الهجرة ويجتاز مثله مثل الاف الشباب تلك
المراحل الاستثنائية ومحاولاً استخلاص العبر مما يجري من حولي.
هذا الشغف لفهم لبنان وتركبيته دفعني الى
التواصل مع واضع نظرية الديمقراطية التوافقية الاستاذ الجامعي "أرند
ليبهارت" بحثت عنه وكتبت عنه وتواصلت معه مباشرةً لأسأله: هل من حلّ للبنان
وللنظام اللبناني؟ فكانت الخلاصة أن هذا النظام الفريد يصلح لأن يكون مرحلة عابرة "استثنائية
وانتقالية" نحو نظام الديمقراطية الكاملة حيث تعارض الأقليّة وتحكم الأكثرية
ويكون الإعلام في كنف هذا النظام الحاكم والمقيّم والمقوّم لأداء السلطات. انتهى
الإقتباس. انتهى معه هذا الشغف المصحوب بكثير من الحلم على شاكلة قصص الخيال العلمي
بأن النهايات تكون دوماً سعيدة.
أكتب اليوم لأعترف أنني أخطأت لأنني ظننت أن
التاريخ لن يعيد نفسه. ظننت أن السنوات العجاف التي عاشها والد جدّي في الحرب
العالمية الاولى والمجاعة ومن ثمّ جدّي مع الإنتداب الفرنسي (ويحضر في ذهني اليوم
كل حكايات الطفل "فيليب" الذي عاش الرعب لحظة تصدّي الدفاعات الفرنسية
للطائرات البريطانية في سماء لبنان) وأتذكّر مع جيل والدي حروب الطوائف والذبح على
الهوّية والإنهيار المالي والدولار الذي وصل الى 3000 ليرة لبنانية (رزق الله)..
وتلك المرحلة التي خطفت طفولتي تهجيراً وتغييراً للمدارس هرباً من صوت المدافع
والحقد...
أكتب اليوم ومرحلة جديدة تسجّل في شريط
ذكريات هذا الوطن الأليمة. أكتب لكي يقرأ ابني (إن أتى يوماً ما) ليفهم الحكاية
منذ البداية: لا تنتظر ولا تقبل أن تعيش على "أمل" أن تحصل معجزة ما.
المكتوب يقرأ من عنوانه: نحن محكومون بالفشل منذ البداية لأننا لم ندرك معنى
الاستقلال ولم ندرك معنى التعايش ولم ندرك الأهميّة التاريخية والدينية التي منحنا
إياها الله بوضعنا في هذه البقعة من الأرض على شاطئ المتوسّط. أكتب لأنّي مؤمن.
أكتب لأنّي على يقين أن التضحية بالبقاء في هذا الوطن كانت كفيلة بأن أتأكّد أن
المرض الذي يعتلي هذا الشعب هو مرض مزمن لا تنفع معه العلاجات الطفيفة سواء أتت من
الشرق أو من الغرب. أكتب لأنني مقتنع بأن ما وصلنا إليه هو من صنع أيدينا ونحن
جنينا على أنفسنا. أكتب لأن المسؤولية جماعية والفشل الذي نعيشه اليوم هو نتيجة
لعدم اجتهادنا في تطوير النظام وآليات المساءلة والمحاسبة... فشلنا. أصبحنا في
القعر. لم يعد بإمكاننا التحليق فطائر الفينيق استنزف نفسه وأصبح جريحاً...
النيران أكلت من لحمه والرماد اصبح أثقل من أن يتمكّن من نفضه ليطير من جديد...
إلّا إذا حصلت معجزة.
والمعجزة اللبنانية لم تعد متاحة. حتى الحلم
لم يعد متاحاً فالوقت لم يعد سانحاً للأحلام. عبثاً نحاول أن تأتينا الحلول من
تركيبة بالية... ففاقد الشيء لا يعطيه ولن يعطيه! كان يمكن للعيد المئة للبنان
الكبير أن يكون أكثر فرحاً لكنّه ليس كذلك.
أصبح الثقل كبيراً والإعتراف بالفشل بحاجة
لشجاعة الفارس الذي يقفز "قفزة إيمان" عن علو شاهق وهو يعرف انه سيقع
ولكنّه يقفز إيماناً بحصانه فربّما يطير. لن
نعيش على الكذبة. انتهى الحلم وربّما في الاستفاقة صحوة ما. صحوة الرمق الأخير. هل
ينفع الأمل؟
فيليب أبوزيد – 26 نيسان 2020